-->

الخميس، 16 أكتوبر 2025

الخروج من النفق (الحلقة السادسة) مفارقة الطالب الجامعي

أكتوبر 16, 2025

 

الخروج من النفق ومفارقة الطالب الجامعي
الخروج من النفق (الحلقة السادسة) مفارقة الطالب الجامعي

   لم تعد الكتابة – في تجربتي – فعلاً أختاره حين يطيب لي، كما كنت أفعل قديمًا، بشغفٍ يشبه متعة المشي ليلاً في شوارع الإسكندرية الشتوية، بعد أن تتعافى من أوجاع الصيف ويغادرها الغرباء؛ بل غدت الكتابة فعلاً قسريًا يسكنني، نوبةً تتملَّكني كلما اختنق الكلام في صدري، فأجد في الحروف طريقًا إلى التنفّس، وفي السطور ملاذًا من صخب العالم.


صرخة مكتومة

وليست هذه السردية تنصلاً من ماضٍ أو إنكارًا لأثرٍ تركه الزمن، بل هي أقرب إلى شهادةٍ تتدلى على حافة الذاكرة، كأنها ورقة مُهملة تنتظر من يلتقطها بعينٍ استيقظت من غفوتها، لتصف الواقع كما هو، دون تزييفٍ يُجمِّله أو خوفٍ يُشوِّهه. هي صرخةٌ مكتومة لمن أراد أن يفهم أن المعرفة لا تُفارق الحياة لأنها تخطئ، بل لأنها تُختطف وتُسجن في دفاتر المصالح، حيث تُدار الأفكار بمنطق الحسابات لا بشغف التساؤل. وحين تُختزل الفكرة في ملف، ويُقاس العقل بمقاييس الجداول، تُصبح التساؤلات طقوسًا شكلية تُمارس بفتورٍ لا بإيمان، ويتحول الفكر من رحلةٍ نحو الفهم إلى حركةٍ دائرية تُدير الزمن لا تُدركه، وتُحصي اللحظات بدل أن تُنيرها. عندها تموت المعرفة موتًا صامتًا، لا لأن أحدًا قتلها، بل لأن أحدًا كفَّ عن الإصغاء لنبضها!

    لن يبلغك الفهم، مهما توغلت بخطواتك داخل هذا النفق الطويل؛ فالظلال هناك تتآلف وتتقارب حتى تختلط المعالم وتضيع الفوارق بين صوابٍ وخطأ، ويبدو كل شيء كمرآةٍ مكسورة تعكس الشظايا ذاتها بأوجهٍ متعددة. ستبقى تتلمس الجدران بأطراف وعيك كما يتلمس النادل طاولةً في غرفةٍ معتمة، تحاول أن تُبقي جذوة التساؤل نابضة رغم هيمنة الصمت المكتنز، فتلقي أسئلتك كمن يرسل طوق نجاة في بحر من الظلال! وفي العتمة تبحث عن خيط ضوءٍ رفيع، لا ضوءًا ساحرًا يخترق السقف دفعةً واحدة، بل شعاعٌ رقيق يدلك على موضعٍ ربما يُخبرك بالحقيقة. تُدرك باكيًا أن المعرفة لا تُقدَّم كمنحةٍ جاهزة، ولا تُدوَّن في سجلاتٍ تُسلَّم بلا مقاومة؛ إنها تُنتزع من بين أصابع الظلام، ببطءٍ وبتأني، خطوة بعد خطوة، وبإصرارٍ لا يلين، كما يقتلع الزارع نبتةً من ترابها ليعرف طعمها الحقيقي.


مفارقة الطالب الجامعي  

    في هذه الحلقة، أقف عند الطالب، ذلك الكائن المُعلَّق بين كفتين: كفة الظلم وكفة المسؤولية. أراه أحيانًا مظلومًا، تُثقله منظومة تعليمٍ لا تُنصت إلى حاجته ولا تُهيئ له سبل الارتقاء، وأراه أحيانًا ظالمًا، حين يتنازل عن فضوله الفطري، ويستسلم لسهولة النجاح ولخداع الدرجات التي تُمنح بلا جهد. وربما هو الاثنين معًا: ضحية نظامٍ أفسد ذائقته، وشريكٌ في استدامة فساده بصمته أو لا مبالاته. إنها مفارقةٌ تضعنا أمام السؤال الجوهري في أي حديث عن التعليم: الطالب ذاته، هذا المحور الذي تدور حوله كل السياسات والشعارات؛ هل يستحق فعلاً أن يعبر بوابة الجامعة؟ وهل الجامعة، كما هي اليوم، تمنحه ما يجعله جديرًا بلقب «خريج جامعي» بالمعنى العميق للكلمة، أعني ما يجعله إنسانًا يعرف كيف يفكر، لا مجرد حامل شهادة يعرف كيف يُجيب؟ ربما آن الأوان لأن نعيد النظر في هذه العلاقة المختلة بين الطالب ومؤسسته؛ أن نسأل بصدقٍ وجرأة: من الذي خذل الآخر أولاً: الطالب الذي لم يعد يتعلم، أم الجامعة التي نسيت كيف تُعلم؟

   لم تكن الجامعة، في جوهر معناها الأول، بابًا مفتوحًا لكل عابرٍ يطرقها، بل كانت فضاءً مهيبًا لا يدخله إلا من تأهب بعُدة الفكر، وتدرَّب على صرامة السؤال، وتهيأ لرحلةٍ لا تقبل الكسالى ولا المطمئنين إلى ما يعرفون؛ كانت ثمرةً تُقطف بعد نضجٍ طويل، وعتبةً لا تُصعد إلا بخطواتٍ أثقلها الاجتهاد ووقرها الشغف بالمعرفة. أما جامعاتنا اليوم، وقد أُنهكت بسياسات الكم بدل الكيف، وأُغرقت في أمواج الشعارات الباهتة التي تُزين الخطب ولا تُطعم العقول، فقد انقلبت رسالتها على وجهها؛ صارت تستقبل من لم يُهَيَّأ بعدُ لعبور عتبتها، وتُرغم أساتذتها – إن وُجدوا بحق – على بذل طاقتهم في تلقين من لم يتعلم بعدُ كيف يتعلم. غاب الامتحان الحقيقي، امتحان النضج والقدرة على التساؤل، وحل مكانه تساهلٌ يُراد به التجميل الإحصائي، لا البناء المعرفي. وهكذا تحولت الجامعة، من منارةٍ للفكر، إلى قاعةٍ مكتظةٍ بالصدى، تُكرر فيها الأصوات ذاتها دون أن تولد فكرة جديدة!

    يصل الطالب إلى بوابة الجامعة مكللاً بأوراق نجاحه، محمولاً على أكتاف شهادةٍ ثانوية تُوهمه – وتُوهم من حوله – أنه اجتاز العتبة الأولى نحو عالم المعرفة والعمل. غير أنك، ما إن تفتح معه أول صفحةٍ من كتاب، أو تطلب منه أن يخطَّ فقرةً واحدةً تخلو من العثرات، حتى تدرك من الوهلة الأولى أن الهوة أعمق مما قد يظن أحدهم، وأن هذا الطالب لم يُربَّ على التفكير، ولم يألف التساؤل، ولم يُعطَ المفاتيح التي تفتح له أبواب الفهم. يدخل قاعة الدرس كما يدخل غريبٌ إلى لغةٍ لا يعرف حروفها، ويجلس ليستمع إلى محاضرةٍ في إحدى النظريات وهو لا يستطيع التمييز بين الجملة والفقرة. تبدو المفاهيم أمامه ككائناتٍ غامضةٍ تتحرك على الورق بلا روح، فيحفظها كما يحفظ المُصلي تلاوةً لا يدرك معناها، ثم يُرددها في الامتحان دون أن تمس وعيه مسًّا حقيقيًا. إن ما يفتقده هذا الطالب ليس الذكاء، بل التربية على التساؤل؛ تلك المهارة التي تصنع الفارق بين متعلمٍ يتلقى، ومتعلمٍ يُفكر.

    لم يأتِ هؤلاء الطلاب إلى الجامعة خطأً من تلقاء أنفسهم، بل جُروا إليها جرًّا، بدفعٍ قسري من نظامٍ تعليمي كلما عجز عن الإصلاح فتح بواباته على مصاريعها؛ نظامٌ يرى في الكم تعويضًا عن الكيف، وفي الأرقام واجهةً تغطي العجز؛ مدارس تُخرج أجيالاً لا تُحسن القراءة بصوتٍ يسمعه العقل قبل الأذن، ولا الكتابة دون أخطاءٍ تُنذر بانقطاع الصلة باللغة والفكر معًا، ولا تقدر على فهم نصٍ واحدٍ يتجاوز السطر الأول من التحليل. ثم تُرمى بهم الجامعة كما يُلقى الحطب في موقدٍ بارد، وتُلقى إلى الأساتذة جملةٌ جاهزة، تختصر عجز المؤسسات كلها: افعلوا ما بوسعكم! لكن ما بوسعك أن تفعل مع طالبٍ لم يتعلم كيف يُفكر؟ كيف تُدرّس له المنطق وهو لا يميز بنية السؤال؟ كيف تُعلمه فلسفة اللغة وهو لا يستطيع التفرقة بين الفعل والاسم؟ كيف تُقيم أداءه وهو يرى القراءة عبئًا ثقيلاً، والكتابة واجبًا عقيمًا لا جدوى منه؟ أمامك شابٌّ لم يُمنح فرصة اكتشاف عقله، بل وُجه منذ طفولته إلى الحفظ لا إلى الفهم، إلى التلقي لا إلى الحوار. وهكذا، حين يصل إلى الجامعة، يصل خالي الوفاض من أدوات التعلم، مُتعب الروح، مُنكسر العلاقة مع المعرفة، لا لأنه يكرهها، بل لأنه لم يذق طعمها الحقيقي يومًا ليعرف أنه كان محرومًا منها!


الجامعة ورشة إسعاف تعليمي

    في هذه اللحظة، لا تكون الجامعة محطةً فارقة تُعزز الرؤية المعرفية أو ترتقي بالفكر، بل مجرد ورشة إسعاف تعليمي، تعاني العجز عن تقديم ما هو أبعد من الأساسيات؛ فالأساتذة الذين كانوا يجب أن يوجهوا طلابهم إلى آفاق التخصص، يجدون أنفسهم مضطرين للعودة إلى ما يجب أن يكون قد تعلمه الطلاب منذ سنوات مضت. ولا غرابة أن يشعر الأستاذ بثقل هذا العبء، وأن يفتقد الأمل في طلابه، بل ويتحول إلى مجرد موجه يرضى بالحد الأدنى من النجاح، ويشجع على اجتياز الجميع، ليس لتطويرهم، بل فقط لإغلاق الملفات وإتمام ما تبقى من مهام ورقية! ولا غرابة في أن تفرض أغلب الكليات على طلابها دراسة أساسيات اللغتين العربية والإنجليزية، وأساسيات الحاسب الآلي وحقوق الإنسان، وما قد يُتاح من أساسيات أخرى كان من الضروري دراستها في مرحلة التعليم قبل الجامعي، جامعةً بين الحُسنيين: قشورٌ يُجمل بها الطالب، وغنائم تُوزع! وهكذا، ينجح الطالب دون أن يتغير، ويُمنح الشهادة دون أن يُنقح فكره، وتُضاف درجة إلى كشوف الجامعة، لكنها تُنقص من هيبتها. والأخطر، أن هؤلاء الخريجين يدخلون سوق العمل وهم عاجزون عن التعبير، غير قادرين على تحليل موقف، لا يجيدون كتابة بريد إلكتروني بلغة سليمة، وربما أصبحوا أساتذة يمارسون بدورهم تدريس الجهل ... ثم يقال: ما بال الجامعة؟ ونسينا أن الجامعة استلمت خامًا تالفًا من البداية، وأن التعليم المدرسي لم يصنع منهم طلابًا، بل ناجين من نظام تربوي وتعليمي عاجز!

    على الضفة الأخرى من المشهد، حين غدت ساحات الجامعات أشبه بأسواق صاخبة للنزاعات والمصالح، كان لا بد أن يكون الطالب أول الضحايا لهذا الانحدار المؤلم؛ ذاك الذي طرق أبواب الجامعة محمَّلاً بأحلام المعرفة، فإذا به يغادرها مثقلاً بالخذلان والفراغ. لم يعد الطالب قلب العملية التعليمية ونبضها، بل تحوَّل إلى مادة خام تُستهلك في دوامة من الجشع لا تعرف سكونًا؛ يُملى عليه المقرّر لا لأنه الأجود علمًا، بل لأنه الأجزل ربحًا، ويُرغَم على اقتناء الكتاب لا لأنه الأوفق لفكره، بل لأنه المقرر الوحيد، رضي أم أبى! وفي ظل هذه الفوضى، أصبح الطالب حقلَ تجارب لنزوات ما أنزل اله بها من سلطان؛ ضاع صوته بين لجانٍ ومجالس علمية تدّعي الحكمة وهي غارقة في الحسابات الشخصية؛ يُدرَّس له مقرر في نظرية المعرفة على يد أستاذ لم يقرأ ديكارت أو جون لوك أو كانط، بل اكتفى بجمع بعض المقالات من الإنترنت وضمَّها في كتابٍ يحمل اسمه؛ يُمتحن في موضوعات لا يفهمها لأنها أُلِّفت بلغة غير علمية، ولا تفتح أمامه بابًا للحوار، بل أبوابًا للإذعان. 

    ما الذي يُنتظر من طالبٍ يُعامل بهذا الشكل؟ كيف يُنتج فكرًا أو يُبدع نقدًا إذا كانت كل أدوات تفكيره مكسورة سلفًا؟ كيف ينمو حسه الفلسفي أو العلمي إذا كان الكتاب المقرر لا يُعلّمه كيف يُفكر، بل كيف يحفظ ويُجامل؟ لقد أصبح الطالب غريبًا في جامعته، يجلس في القاعة وهو يدرك أن ما يُلقى عليه هو خارج العصر، وأن الأستاذ الذي أمامه يكرر كتابه للسنة العاشرة بذات الأخطاء الطباعية. أصبح الطالب واعيًا، أكثر مما يظن أساتذته، لكنه مُكبَّل بالخوف من الرسوب، أو باليأس من التغيير، أو باللامبالاة التي تنشأ حين يفقد النظام كله معناه؛ وكم من طالب أُهدر حقه لأنه لم يشترِ الكتاب، أو لأنه تجرأ على انتقاد محتواه، أو لأنه طلب مقررًا مختلفًا! كم من طالب ضاع مستقبله لأن المقرر وُزّع ضمن مساومات فوقية، لا علاقة لها بمصلحته!

    لقد آن أوان المصارحة، ولفتح النوافذ في القاعات المُغلقة، لا ليتسلل الهواء فحسب، بل لتندفع نسمة جديدة تُعيد للجامعة معناها، وللطالب مكانته، وللتخصص العلمي قدسيته. 

الجمعة، 10 أكتوبر 2025

الخروج من النفق (الحلقة الخامسة) منعطف الخصخصة

أكتوبر 10, 2025

 

مشكلة خصخصة التعليم الجامعي المهيمن على الاساتذة وجعل الربح أساسي
خصخصة التعليم الجامعي

   أسوأ ما يمكن أن يُبتلى به المرء في دهاليز الإدارة الجامعية ليس البيروقراطية ذاتها، بل ذلك الأمل الأحمق الذي يولد من رحم الخيبة، كما لو كان عنادًا داخليًا يأبى أن يموت. في كل مرة كنت أدخل فيها منعطفًا جديدًا من هذا النفق الرمادي، وفي كل مواجهةٍ مع وجوه جديدة أو إدارة جديدة، كان يتسلل إلى رأسي ذلك الصوت الخافت: 

(ربما هذه فرصتك، ربما هذه المرة ستكون مختلفًا، طبيعيًا، صفحةٌ بيضاء تنتظر الكتابة، بدايةٌ لا تشبه ما سبق.)

    لكن ما إن أتوغل في الممرات حتى أكتشف أنني ما زلت في العتمة ذاتها؛ لا شيء يتغير سوى العناوين والأبواب، أما الجدران فصمَّاء كما هي، والهواء ثقيلٌ كما هو، والوجوه متعبةٌ كما هي. أبكي في داخلي بلا صوت، وأمد يدي أتحسس جدران النفق كمن يبحث عن مخرج وهمي للفرار، فلا أجد إلا الصدى يردد أن لا سبيل إلا الاستمرار! 

    وهكذا، كنت أقف دومًا على حافة الأشياء، لا في الداخل ولا في الخارج، أعقد أصابعي في ارتعاشة صغيرة، وأهمس في قلبي بدعاءٍ خفي: ألا يحاول أحدٌ أن ينظر في عيني، ألا يراني أحدٌ وأنا على هذه الهيئة، والشيء الجيد أنهم كانوا لا يفعلون ذلك.

خطوات قليلة لداخل النفق

    عندما تخطو داخل النفق، يخفت صوت الرياح تدريجيًا، كما لو أنك تغادر العالم الحقيقي إلى عالمٍ آخر، بلا اتجاهات ولا صدى. ترفع رأسك نحو الأضواء التي تتسرب من شقوق السقف العالية، فتبدو كأنها أنفاسٌ بعيدة لعالمٍ ما زال يتنفس فوقك. وحين تضبط عينيك على ذلك الضوء الباهت، تلوح لك النهاية هناك؛ بقعة ضوءٍ في آخر الممر، بعيدة كالوهم. 

    الأصوات من الخارج تتلاشى، الأمواج لا تصل، والزمن نفسه يبطؤ حتى يكاد يتجمد. ثم تجد نفسك في منتصف النفق؛ لا عودة ممكنة، ولا وصول قريب. يتحول كل شيء إلى كابوسٍ ثقيل، خطوة بعد خطوة، صمتٌ بعد صمت. 

    ولكن عندما تبدأ الفتحة بالاقتراب، تشعر أن قدميك تخونانك؛ كأن الضوء ينسحب في كل مرة تقترب فيها منه. حتى اللحظة التي تظن فيها أنك لن تصل أبدًا، يسطع أمامك فجأة ... تخرج، فينفجر الصوت من حولك، أضخم، وأشد، وأصدق مما تتذكر. الرياح تحتضنك من جديد، تدفعك إلى الخارج، وهناك، تمتد المدينة الغارقة في أوهامها أمامك. 

    مليون مصباح، وآلاف النوافذ، ومبنى يعلو آخر، كل شيء يبدو مدهشًا وحزينًا، تمامًا كما كان في المرة الأولى التي رأيته فيها!

    أشعر بالتعب؛ وتسيل الدموع بصمتٍ على وجهي. أتذكر ذلك الشعور القديم، حين يكون الألم طاغيًا إلى حدٍ يجعل فكرة قضاء يومٍ آخر معه تبدو مستحيلة. 

    لكنه، في أحيانٍ أخرى، يصبح بوصلةً خفية، يرشدك خلال أكثر أنفاق النضج ظلمةً وفوضى؛ فالألم، على قسوته، لا يمكنه أن يقودك إلى السعادة إلا إذا تذكرته، واعترفت بوجوده، وسمحت له بأن يُعلمك كيف ترى الضوء من جديد. وها أنا ذا أكتب، لا كمن ودَّع منصبًا، بل كمن شيَّع همًا ظل يطعمه قلبه لسنواتٍ ممتدة. 

    كنت أظن أن الفلسفة، ما دامت تُدرَّس، تبقى مُحصَّنة ضد الغياب، وأنها مثل نجمٍ قديمٍ، لا يحتاج إلى من يؤمن به كي يضيء. لكنني تعلمت، متأخرًا، أن تدريسها لا يعني حضورها، وأن النصوص، مهما اتسعت، قد تخلو من أنفاسها، وأن القاعات المضيئة قد تكون مقابر للأفكار التي لم تجد من يصغي إليها. 

    لقد شغلت موقعًا رأيت فيه كل شيء؛ رأيتُ الفكرة وهي تنكسر عند عتبة المصلحة، ورأيتُ المعنى وهو يتفتت على وجوهٍ بلا بريق، ورأيتُ الضوء وهو يحاول أن يمر عبر زجاجٍ غائم، فلا يبلغ إلا كسرًا ووهجًا حزينًا. ولذا، أكتب الآن لا لأسأل: 

ما الفلسفة؟ 

بل لأسأل، بصوتٍ مبحوحٍ من فرط الانتظار: أين اختبأت؟ أفي الكتب التي نسيناها؟ أم في الصمت بين جملٍ لم تُكتب؟ أم في المسافة التي تفصل السؤال عن الإجابة؟ ماذا فعلنا بها؟ ربما لم تختبئ الفلسفة، بل نحن الذين أطفأنا المصابيح، وتركناها تمشي وحدها في النفق، تبحث عنّا.

خصخصة التعليم الجامعي

    في لحظةٍ فارقة من تاريخ التعليم، كان على الدولة أن تنحني قليلاً لتصغي إلى صراخ الجرح، أن تفتح دفاترها القديمة وتراجع الجذور التي نبتت منها الأزمة. كان عليها أن تعترف – بشجاعةٍ لا يعرفها إلا من أحب – أن مدارسها لم تعد تُخرج طلابًا، بل أطيافًا تمشي في الممرات بلا ظل، وأن جامعاتها تغرق في طين التكلس والعشوائية، كمن نسي الحركة منذ زمنٍ بعيد. 

    لكنها، بدلاً من المداواة، اختارت المراوغة، وبدلاً من أن تُصلح ما أفسدته السياسات التعليمية، قررت أن تتزين أمام المرآة وتدعي التجديد، ففتحت الباب – لا مواربًا، بل على مصراعيه – لما سمَّته «الجامعات الأهلية والخاصة» و«البرامج الخاصة داخل الجامعات الحكومية»، تلك التي لم تولد من رحم الحاجة إلى المعرفة، بل من رحم الحاجة إلى الربح. 

    جامعات وبرامج تُلمَّع واجهتها بشعاراتٍ براقة عن «التعليم العصري» و«الابتكار» و«الشراكات الدولية»، بينما جوهرها لا يختلف عن أي سوقٍ تُعرض فيه السلع بألوانٍ زاهية لتُخفي هشاشتها.

الهروب الناعم

    لم تكن هذه الجامعات والبرامج حلاً، بل كانت هروبًا ناعمًا من الحل الحقيقي؛ فالدولة التي لم تعد قادرة – أو لعلها لم تعد راغبة – في أن تنفق على جامعاتها الحكومية، راحت تُلمع البديل الخاص، لا لتفتح بابًا ثانيًا للعلم، بل لتفتح سوقًا جديدة للاستثمار. هكذا، انقلبت الموازين في غفلةٍ من الضمير: صارت المعرفة بضاعة، والدرجة العلمية منتجًا، والطالب عميلاً يُقاس رضاه لا نضجه، والأستاذ موظفًا في واجهة العرض، عليه أن يُرضي الزبون لا أن يُنير له العقل؛ وهكذا، تراجعت الفكرة الكبرى – فكرة الجامعة كضميرٍ للأمة – إلى الخلف، وتقدَّم المال ليتكلم باسم المستقبل. ومن يومها، صار الضوء الذي ينساب من النوافذ الأكاديمية باهتًا، لا يُضيء طريقًا، بل يزيد من تعقيد العتمة.

تحولٌ قاسٍ

    لقد شهدنا تحولًا قاسيًا، انزلق فيه التعليم – أخطر قضايا الأمة وأشدّها إلحاحًا – من ميدان الفكرة إلى ميدان الفاتورة. لم يعد الالتحاق بالجامعة امتحانًا للجدارة، بل اختبارًا للقدرة على الدفع؛ صار الطريق إلى القاعة لا يُعبَّد بالمعرفة، بل بالإيصال المختوم، وصار الطالب لا يُقيَّم على ما فهمه من أفكار، بل على انتظامه في السداد، وعلى ما يملكه هو أو ولي أمره من رصيدٍ في حسابه، لا من نورٍ في عقله. وامتدت العدوى إلى المناهج ذاتها؛ فصارت البرامج الدراسية لا تُبنى على حاجة الوطن، بل على ما يثير الطلب في السوق!

    فجأة امتلأت الواجهات بأسماءٍ براقة، تلمع كالذهب وهي في حقيقتها رقائق من نحاسٍ باهت «ذكاء اصطناعي»، «تسويق رقمي متقدم»، «اقتصاد السوشيال ميديا»، ... إلخ؛ عناوين تسوق الوهم، بينما الجوهر خواءٌ يتردد صداه بين جدرانٍ أنيقةٍ بلا روح. ومن تحت هذا الغطاء اللامع، بدأت الدولة تنسحب ببطءٍ محسوب من دورها التاريخي؛ وبدلاً من أن تُطور الجامعات الحكومية، راحت تُضيق عليها الخناق، وتجفف تمويلها، وتُقلل طلابها، وتُضعف مكانتها في الوعي العام، حتى غدت تُقدَّم في الإعلام كأنها عبءٌ ثقيل على «اقتصاد المستقبل». وفي الجهة المقابلة، تُرفع اللافتات: 

«الجامعة الخاصة... طريقك إلى العالمية»، «الجامعة الأهلية... مستقبل التعليم العصري»، «البرامج الخاصة ... سبيلك لتحقيق حُلم اللقب»؛ شعاراتٌ ملساء، تُغطي على منطقٍ مادي صارخٍ لا يجرؤ أحد على التصريح به: لماذا تُمول الدولة تعليمًا لا يعود عليها بربحٍ مباشر؟ هكذا، تم الاستبدال بهدوءٍ مريب: الخصخصة بالمجانية، والمشروع بالرسالة، والمُمول بالطالب. وتحولت الجامعة – التي كانت يومًا منارة الوعي الوطني ومختبر الحلم الجمعي – إلى مؤسسةٍ ماليةٍ أنيقة، تُصدر شهاداتٍ مصقولة، لكنها عاجزة عن إنارة طريقٍ واحدٍ نحو المستقبل.

    أما الأساتذة، فقد استيقظوا ذات صباح ليجدوا أنفسهم أمام مفترقٍ لم يختاروه؛ إما أن يبقوا في الجامعات الحكومية – بأجورٍ ضئيلةٍ لا تصمد أمام الغلاء، وفي بيئةٍ متداعيةٍ تذبل فيها الفكرة كما يذبل النبات في تربةٍ عطشى، وبين جدرانٍ فقدت هيبتها كما فقدت مكانتها في الوعي العام – أو أن يهاجروا إلى الجامعات الخاصة، حيث تزداد الرواتب، وتُرصع المكاتب بالزجاج والأضواء، لكن يُطالَب الأستاذ أن يخلع عن نفسه آخر ما تبقى من حريته. هناك، يُقاس العطاء بعدد التسجيلات، لا بعدد الأفكار، وتُختصر الكرامة الأكاديمية في شعارٍ بسيطٍ لكنه فادح: عليك إرضاء العميل، لا تزعجه؛ لا بحث، لا اعتراض، لا صرامة؛ المهم أن الطالب – الذي صار يُسمى «العميل» – يبتسم، ويدفع؛ وأن ولي أمر يتفاخر بين الدهماء كذبًا بلقبٍ تمكن من شرائه! 

    هكذا، دخلت الجامعة في أزمة هوية عميقة: أهي مؤسسة أكاديمية تُنبت العقل وتُهذب الفكر؟ أم شركة تعليمية تُنبت الربح وتُهذب الواجهة؟ أهو الأستاذ باحثٌ ومربٍّ وموقظٌ للأسئلة؟ أم موظف مبيعاتٍ يجيد فن التسويق؟ أهو الطالب مشروع عقلٍ يُصاغ على نار السؤال؟ أم مستهلكٌ يدفع مقابل شهادةٍ لامعة كعملةٍ معدنية؟

    أما الطالب، فقد تلقّى الضربة الأعمق؛ في الجامعات الحكومية، يقف غريبًا بين جدرانٍ متصدعة، وقاعاتٍ مكتظة، ومقرراتٍ لا حياة فيها سوى صدى التكرار؛ يدرس لا ليعرف، بل لينجو؛ وفي الجامعات الخاصة، يتنقل بين المكاتب والمصاعد كرقمٍ مالي لا وجه له؛ لا يُسمع صوته إلا إذا تأخر في الدفع، ولا يُطالَب بالجد لأن الجدية تُقلل «الإقبال». صار عليه أن يتعلم كيف يبتسم في وجه الفراغ، وكيف يتخرج محملاً بالتقديرات لا بالأسئلة. وهكذا، تهاوت الجامعة بين جدرانها؛ لم تعد بيتًا للعقل، بل صالةً فخمةً للعقود. وصار الأستاذ غريبًا في مكانه، والطالب غريبًا عن غايته، والعلم غريبًا عن نفسه!

الأربعاء، 1 أكتوبر 2025

الخروج من النفق (الحلقة الرابعة) (الكتاب الجامعي)

أكتوبر 01, 2025

 

الخروج من النفق (الحلقة الرابعة)  (تعرف مآساة الكتاب الجامعي)

  كان يُفترض بالكتاب الجامعي أن يكون مرآةً لعلم الأستاذ وتجليًا لضميره المهني، ومرشدًا للطالب في رحلة تحصيله الدراسي، يفتح أمامه دروب الفهم ويهديه إلى مكامن المعرفة. غير أنه ما إن توغلت ثقافة السوق في العقول والقلوب، حتى انقلب الكتاب من رسالةٍ للعلم إلى وسيلةٍ للنجاة، ومن منارةٍ للمعرفة إلى سلعةٍ للمساومة، ومن جسرٍ يربط الطالب بمصادر الحكمة إلى أداةٍ للارتزاق؛ فإذا بالأستاذ (أو بالمعنى الأدق: عضو هيئة التدريس، سواء أكان أستاذًا أم أستاذًا مُساعدًا أم مدرسًا؛ وسواء أكان عاملاً أم متفرغًا) لا يختار الكتاب لأنه الأجود أو الأنفع علمًا، بل لأنه من تأليفه أو إعداده، أو ربما انتحاله! وإذا بمحتوى المقرر الدراسي لا يُبنى على أساس التوازن المعرفي، بل على ما يضعه هذا أو ذاك من كتبٍ تُدر عليه دخلاً، أو ما يتيح له المقام من فرصٍ لترويج بضاعته. 

    هكذا غابت قداسة الكتاب الجامعي حين غُلف بغبار المنفعة، وتصدعت رسالته النبيلة تحت وطأة الحسابات الضيقة، فخسر الطالب مُرشده، وخسر الأستاذ شاهده! وفي لحظةٍ فارقة من لحظات السقوط، أصبح الأستاذ يتنافس لا على المعرفة، بل على المقررات، يقاتل لا من أجل طلابه، بل من أجل مقرراته؛ يحضر مجلس القسم وفي يده قائمة بالمقررات التي يرغب في أن يقوم المجلس بإسنادها إليه، وفي قلبه نية دفينة لفرض كُتبه، لا لأنها الأصلح، بل لأنها الأقدر على إنعاش جيبه وتكريس حضوره. ولم تسلم العلاقة بين الأساتذة أنفسهم من هذا الانحدار؛ فقد حل الصراع محل التعاون، والتطاول محل الاحترام، والحسد محل الإعجاب، والمصلحة محل الرسالة؛ كبارٌ يرون في الصغار طامعين متطاولين على حصونٍ شُيدت بعرق السنين، وصغارٌ يرون في الكبار طغاة مُهيمنين، أو بالأحري سدنة لاحتكارٍ يسلبهم فُرص الرزق ويكبح أمامهم آفاق الطموح، وبين هذا وذاك، يظل الطالب الغائب الأكبر، يتأرجح بين أن يكون محور العملية التعليمية أو مجرد ذريعة في معركة لا تخصه. وكأن الجامعة لم تعد جماعة علمية تسعى إلى الحقيقة، بل ساحة شبه إقطاعية يتقاسم فيها أصحاب النفوذ والأصوات العالية الغنائم، ويُهمَّش فيها من لا صوت أو سند له!

    الأدهى من ذلك أن الكتاب الجامعي لم يعد أداة للارتقاء بالعملية التعليمية كما هو مُعلن في خطط الجودة، بل صار حجر عثرة أمام تطوير المناهج؛ تُجمد المقررات لسنوات لا لثباتها العلمي، بل لثبات مصالح أصحابها، وتُجهَض محاولات تجديد اللوائح الدراسية خشية المساس بأرباحٍ مألوفة. بل إن بعض الإدارات تتغاضى عن التقييم الجاد للكتب الدراسية لأن فتح هذا الباب يعني فتح أبواب العداوة بين الزملاء، وكشف المستور من السرقات العلمية والتواطؤات الصامتة!

    من جهة أخرى، لم تعد اللوائح الدراسية انعكاسًا لاحتياجات الطالب وتطورات التخصص وحاجات سوق العمل، بل صارت ميدانًا لاقتسام الأرباح، فإذا ما فُرض تجديدها في إطار مظهريةٍ مألوفة لمواكبة الجديد، أصبحت اللوائح ساحات للمساومات وحياكة الغنائم وتوزيعها بين الأقسام العلمية وداخلها: ضع لي مقررًا أضع لك مُقررًا مقابلاً، ولا عزاء للمقررات البينية، فلسنا بحاجة إليها إن اقتطعت من أرباحنا! كذلك لم تعد خُطط التعيين تُبنى على أسس علمية واضحة أو تُراعى فيها الأولويات الأكاديمية الحقيقية، بل غاب عنها مبدأ ربط التعيين بالاحتياجات الفعلية، وخضعت في كثير من الأحيان لأهواء المتربحين من تخصصات القسم وشُعبه، الأمر الذي انعكس سلبًا على كفاءة العملية التعليمية وجودة المخرجات البحثية!

    في هذا السياق، لا عجب أن تتدهور العملية التعليمية؛ فحين يُكتب المقرر ليُباع لا ليُنير، وحين تُضبط اللوائح وخُطط التعيينات على إيقاع المكاسب لا الاحتياجات، وحين تُقاس القيمة العلمية بعدد النسخ المباعة لا بعدد العقول المستنيرة، فلا انتظار لصحوة أو نهضة. بل كل ما نحياه هو «زمن التكلس»، حيث تجثم كتب بائسة على صدور الطلاب، وحيث تتحول قاعات المحاضرات إلى معارض للكتاب الإجباري، لا للقراءة الحرة! 

***

    في تاريخ الفكر الإنساني، ما كانت المعرفة يومًا سلعة تُباع في الأسواق، ولا كانت «مقررات» تُفرض على الطالب بقرارات بيروقراطية جامدة؛ بل وُلدت المعرفة من قلق السؤال، وتفتحت من رحم التجربة والبحث الحُر، وصارت الحكمة ابنةً للحيرة أكثر مما كانت ثمرةً لمنهاجٍ محدد. أي كتابٍ ذاك الذي فُرض على سقراط حتى ينجح في امتحانٍ لم يُعقد أصلاً؟ ألم يكن في حد ذاته كتابًا حيًّا يمشي في شوارع أثينا، يُسائل العقول كما يسائل النهر ضفتيه؟ لم يترك سقراط وراءه ورقة مكتوبة، لكنه ترك شعلةً في كل قلب التقط شرارة من جداله. وحين جاء أفلاطون، حوَّل الأكاديمية إلى سماء مفتوحة، تسبح فيها الأفكار كما تسبح النجوم في فضاء لا سقف له. ثم أطل أرسطو، فجمع علوم عصره كما تجمع الأرض ثمارها، متحررًا من قيود المقرر، مؤمنًا بأن الفكر أكبر من أن يُختزل في نص واحد!

    أي سِعرٍ دفعه ديكارت لقاء كتابٍ ليُرضي به أستاذًا، وهو الذي أعلن أن العقل أعدل الأشياء قسمةً بين الناس؟ وأي مقررٍ أُلزم به كانط، وهو الذي جعل من عقله قاعةً للفحص ومن فكره امتحانًا لا ينتهي؟ وأي كتاب عكف نيتشه على حفظه وقت أن انطلق كالعاصفة، يحطم الأصنام الفكرية، ويمحو القوائم الجامدة، صارخًا بأن الإنسان لا يولد إلا حين يصنع قيمه بيديه من رماد الموروث؟ وفي تراثنا العربي، لا يختلف المشهد عند الكبار؛ فالغزالي، الذي رحل في رحلة شك هائلة، لم يرضَ أن يكون أسير كتابٍ واحد، بل جعل من كل قراءة اختبارًا، ومن كل كتاب منزلة في رحلة البحث عن اليقين؛ ولم يكن ابن رشد تابعًا للنصوص، بل خصمًا ومجادلًا ومؤولًا، حتى إذا ضاقت به السلطة، ظل فكره حرًّا في أوروبا. أما ابن خلدون، فقد أسّس علمًا جديدًا من تأمله في حركة العمران البشري، لا من مقررات جامعية عقيمة أو مناهج مفروضة! لم يكن هؤلاء الفلاسفة والعلماء أبناء أنظمة تعليمية مغلقة، ولا كتبٍ مفروضة، بل كانوا أبناء القلق والسؤال، والتجربة والشك، والحرية الفكرية التي لا تُسعَّر في الأسواق ؛ فالمعرفة عندهم لم تكن «تورتة» تُوزَّع على المنتفعين، ولا «غنيمة» تُقتسم في المجالس، بل كانت شُعلةً تتقد كلما اصطدمت بالظلام! إن الفارق بين أولئك العظماء وأساتذة جامعاتنا اليوم ليس فارق زمان فحسب، بل فارق معنى ورسالة؛ فالمعرفة لا تُشترى بفاتورة، ولا تُفرض بقرارٍ إداري، وإنما تُولد من عقلٍ حُر، ومن قلبٍ صادق يسائل العالم بحثًا عن الحقيقة!

***

    في زمنٍ متأخر، وبعد أن استُهلك الورق والحبر في كتب جامعية مكرورة، وربما منتحلة، استيقظت الدولة فجأة على فكرة التحول الرقمي، وقرَّرت – دون مقدمات ولا بنية تحتية – أن تنقل الكتاب الجامعي من الورق إلى الشاشة، من المطبعة إلى المنصة، من السوق الرمادي إلى السوق الإلكتروني ... كأنَّ الرقمنة قرارٌ إداري يمكن فرضه بجرة قلم، ويمكن تطبيقه بلقطاتٍ تجميلية وتصريحات عنترية، لا مشروع معرفي يحتاج إلى بيئة، وبنية، وتدريب، وأخلاقيات واضحة! 

    أُعلنت القرارات بلهجة احتفالية: «وداعًا للعبء الورقي، أهلًا بالمستقبل الإلكتروني»، لكن لم يمضِ وقت طويل حتى ظهر الوجه الحقيقي للمشروع: لا منصات مؤهلة، لا تدريب فعلي، لا أجهزة كافية لدى الطلاب، لا إنترنت مستقر، ولا ثقافة رقمية راسخة؛ طلابٌ لا يملكون حواسيب، وأساتذة لا يستطيعون التفرقة بين أنواع الملفات الإلكترونية، ومنصات تنهار تحت ضغط الدخول، وأدوات تقييم تثير السخرية! ومع ذلك، مضت التعليمات إلى التطبيق، بل إلى التسويق الإجباري؛ صار الكتاب الإلكتروني إلزاميًا، يُحمَّل من منصة الجامعة، ولا يُفتح إلا برمزٍ لا يُعطى إلا بعد الدفع؛ وصارت الامتحانات الدورية تُجرى على المنصة ذاتها، في صيغة مصمَّمة لدفع الطالب إلى الدفع، ثم بدأ الضغط الصامت: «لا يُمكنك أداء الامتحان دون الكتاب»؛ «لن تدخل على المحتوى إلا إذا دفعت»؛ «الأسئلة من الكتاب فقط»؛ «الكتاب الإلكتروني مضمون وأسئلته حصرية»!

    هكذا، تحولت الجامعة من جهة تعليمية إلى وسيط بيع إلكتروني؛ بل أكثر من ذلك: أصبحت الإدارات الجامعية شريكة في العائد رسميًا دون وجه حق؛ فبعد أن كانت تقرر – يومًا ما – بعدم جواز إلزام الطلاب بشراء الكتب، وتُهدد المخالفين بخطابات دورية من مكاتب العمداء والوكلاء، تحولت إلى داعمٍ رئيسٍ لتسويقها، لأنها صارت تحصل على نسبة من حصيلة البيع، فأصبح في المسألة مصلحة، لا سياسة؛ وأصبح من يراقب البيع، هو ذاته من يقوم به ويستفيد منه!

    هنا، انكشفت النوايا: لم يكن الهدف الرقمنة، بل إعادة إنتاج السوق القديمة في ثوب جديد، وبتقسيماتٍ جديدة للأرباح؛ الكتاب الورقي، الذي كان يُباع يدًا بيد في أروقة الكليات، وفي المكتبات المحيطة بالحرم الجامعي، صار يُباع من خلال المنصة الرسمية. لا أحد سيتحدث الآن عن الإلزام، لأنه لا يوجد إجبار مباشر، لكن الطالب لا ينجو إلا بالدفع، والمحتوى لا يُفتح إلا بكود، والمنصة لا تفتح ذراعيها إلا لمن دفع؛ أي أننا لم نُلغِ سوق الكتب، بل قمنا بميكنتها، وإعادة توزيع عوائدها!

    لم يعد السؤال: هل يستفيد الطالب من هذا الكتاب؟ بل: هل دفع أم لا؟ هل فعَّل الكود أم لا؟ هل دخل على المنصة أم لا؟ ولم يعد الأساتذة يُقيَّمون بناءً على جودة الكتاب، بل على عدد الطلاب الذين قاموا بتحميله؛ بل إن بعض مجالس الكليات صارت تُخحصص الجزء الأكبر من وقتها لمراجعة مؤشرات البيع وكيفية توزيع الغنائم!

    كل هذا جرى تحت ستار الحداثة، لكنها حداثة زائفة، تُوظَّف لأهداف مادية، لا علمية. لا أحد يُراجع جودة الكتاب؛ لا أحد يُحاسب على الرداءة الفكرية أو الأخطاء، لا أحد يُحاسب على ما يحدث في مجالس الأقسام والكليات من صراعات وتجاوزات؛ المهم أن يُباع الكتاب، أن يُحمَّل، أن يُفعل الكود، أما ماذا قرأ الطالب؟ وهل فهم؟ فلا يسأل أحد! إن تحويل الكتاب الورقي إلى كتاب إلكتروني لم يكن أزمة في ذاته، بل في الطريقة التي استُخدمت: لا بوصفه تطويرًا، بل بديلاً سهلاً للبيع الإجباري، بغطاءٍ رسمي، ومصالح مشتركة. والنتيجة؟ أن الطالب فقد احترامه للكتاب الجامعي،

والأستاذ فقد سيادته على المادة، والأقسام فقدت مصداقيتها، وبقيت الشاشة – الباردة، الزائفة – تُخبرنا أن التحول الرقمي قد تم، بينما الحقيقة أن العقل لم يتحرك خطوة واحدة!

السبت، 20 سبتمبر 2025

الخروج من النفق (الحلقة الثالثة) حلقة بروتاجوراس

سبتمبر 20, 2025

 

الخروج من النفق (الحلقة الثالثة)  حلقة بروتاجوراس

 في إحدى الأمسيات، جلس سقراط بين مجموعة من الشباب في بيت رجلٍ ثري، حيث كان السفسطائي بروتاجوراس يعرض قدرته على تعليم الفضيلة؛ فسأله سقراط: هل الفضيلة شيءٌ واحد أم أشياء متعددة؟ وهل بالإمكان أن نتعلمها حقًا؟ بدأ بروتاغوراس يجيب بخطابة طويلة، مستخدمًا مهاراته في الإقناع. لكن سقراط، على طريقته المعتادة، كان يطرح عليه أسئلة صغيرة ودقيقة، ويطلب منه الإجابة عنها تحديدًا: هل الفضيلة شيء يمكن امتلاكه بالتعلم مثل الموسيقى أو الرياضيات؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا نرى أن أبناء الحكماء ليسوا بالضرورة فاضلين مثل آبائهم؟ وإن لم تكن الفضيلة قابلة للتعلم، فكيف يعد السفسطائي نفسه قادرًا على تعليمها للآخرين مقابل أجر؟

    مع مرور النقاش، بدأ بروتاجوراس يتراجع في مواقفه، وأحيانًا يناقض نفسه من غير قصد. وكان سقراط يستعمل ما عُرف لاحقًا بالطريقة السقراطية (التساؤل المستمر حتى يكشف تناقضات الخصم)؛ وفي النهاية، لم يُحسم النقاش تمامًا، لكن الحاضرين خرجوا بانطباع واضح: السفسطائي يعتمد على البلاغة والإقناع والخداع والمغالطة، بينما سقراط يبحث عن الحقيقة في حد ذاتها، حتى لو لم يصل إلى إجابة نهائية!

    من غرائب النفق الإداري الجامعي أن بوابته المضيئة تتراءى من بعيد كمنارةٍ براقة، تخطف الأبصار وتستفز الطموح، تمامًا كحلقة بروتاجوراس، فينطلق إليها الساعون اندفاعًا كأنهم في حجٍّ بلا زاد ولا رفيق. غير أن الداخلين إليها ما إن يجاوزوا عتبتها حتى تتكشف لهم حقيقة أخرى: دهاليز موحشة، ودروب معتمة، وممرات ملتوية، وأركان يخيم عليها صمتٌ ثقيل لا يقطعه إلا صدى البيروقراطية وهي تمضغ نفسها، وجدران عالية تصد الصدى ولا تعكس الضوء. هنالك يتباين الناس؛ فمنهم من يألف العتمة حتى تألفه ويألفها، وتصير مأواه ومطمحه، يتنفسها كما يتنفس الهواء، فلا يرى في الظلام عيبًا ولا في الرتابة خطيئة؛ ومنهم من يلعن الظلمة ويستبصر أنها ليست قدرًا سماويًا بل صناعة بشرية بامتياز، مستشعرًا أن النور الذي أغراه في البداية لم يكن إلا سرابًا قاتلاً. ولعل أعجب ما في هذا النفق أن السائر فيه لا يُمنح رفاهية التوقف؛ فإما أن يساير ظلمته ويعيد تشكيل ذاته على إيقاعه البطيء المرهق، وإما أن يظل على رفضه حتى يستنزف صبره وعزيمته. وهكذا يغدو النفق امتحانًا خفيًّا للإرادة: أيصبر المرء حتى يخلق من عتمته ضوءًا داخليًا يقوده، أم يستسلم لها ويغدو جزءًا من غياهبها؟ وماذا تفعل حين يصبح العلم سلعة، وتغدو المعرفة شهادة، وتبيت الفضيلة ورقة مختومة بخاتم سفسطائي لمن يدفع أكثر!

    لكن المأساة لا تقف عند هذا الحد؛ فثمة طائفة ارتضت أن تقيم في الساحات أصنامًا من الكراسي والمناصب والقرارات، ثم انبرت تتعبد لها صباح مساء، تقدم فروض الولاء وتلتمس البركة من المسؤول الأعلى، حتى غدا رضاه عندهم أشبه بالوحي، وأمره منزَّهًا عن النقاش، وكأنما رضا ذلك المسؤول هو غاية الغايات ومناط النجاة! ولأن المهازل في هذا النفق لا تنفد، ترى بعضهم يتفننون في ابتكار طقوس الطاعة: هذا يمدحُ قرارًا أعرج كأنه فتحٌ مبين، وذاك يبرّرُ خللاً إداريًا كأنه حكمةٌ لا تدركها العقول. فإذا اعترض عاقل أو تجرأ صادق، رمَوه بسذاجة الحالم أو قلة الخبرة، وكأن الرؤية الواضحة عيب، والسكوت على الباطل فضيلة! ومع ذلك، تظل في العتمة قلةٌ نادرة، تمشي متعثرة لكنها رافعة الرأس، ترفض الركوع للأصنام، وتسخر في سرها من مهرجانات التقديس الزائف. هؤلاء وحدهم من يتذكرون أن الجامعة لم تُخلق لتكون مسرحًا لطقوس الولاء، بل بيتًا للعلم وفضاءً للحرية. ولعلهم، بصدقهم وصبرهم، هم النور الخافت الذي يفضح الظلام، ويذكر الباقين أن النفق مهما طال، لا بد أن ينتهي بخروج إلى فضاء أرحب.

    داخل النفق، كنت أذهب إلى عملي في كثيرٍ من الصباحات مُفتقدًا شعورًا ضروريًا بالرضا الوظيفي، كأنني أُساق إلى مكانٍ لا يحمل لي من اسمه سوى اللفظ؛ أخطو على الطريق متثاقلاً؛ قدَمٌ تتقدم بحُكم العادة، وأخرى تتردد كأنها تبحث عن مُبرر. أستيقظ باكرًا، لا شوقًا إلى درس ولا توقًا إلى لقاء، بل وأنا أُحصي مُسبقًا هواجس اليوم: أي مشكلة ستفاجئني؟ أي مطلب سيتجاوز قدرتي؟ أي وجه سأصادف: وجهٌ ممتعض يرمقني ببرود، أم مبتسم يخفي ما وراءه، أم غاضب يتقن لغة اللوم والتنمر؟ تتزاحم الأوراق في مخيلتي قبل أن ألمسها: تقارير، طلبات، تواقيع، ملفات لا تنتهي؛ كأنني موظف في طاحونة من ورق، أديرها بيدين مثقلتين، فيما روحي تقف على الهامش متسائلة: أين دور العقل؟ أين مكان القلب؟

    كنت أدخل من البوابات الكُبرى والصغرى كمن يفر من قدرٍ إلى قدر، وفي صدري صرخة مكتومة تزداد ثِقلاً كلما حاولت أن أخفيها بابتسامة مصطنعة أو بحديثٍ عابر؛ صرخة لا يسمعها أحد، لأنني أخشى أن أطلقها، أخشى أن أُعاب بالشكوى أو أن أُتهم بالجحود. لكني أشعر بها تكبر داخلي كما تكبر النار تحت الرماد. أجلس في مكتبي، وأتأمل الجدران الصامتة. كم مرة شهدت هذه الجدران وجوهًا مرَّت قبلي؟ أساتذة وأجيال، بعضهم استشعر وحشة النفق، وبعضهم اعتاده وأحب المكوث فيه لأطول وقت ممكن. أفتح الملفات أمامي، لكن داخلي يفتح ملفًا آخر: ملف حياتي. أسأل نفسي: هل جئت إلى هنا لأنني اخترت، أم لأنني وجدت الطريق مفروشًا أمامي؟ وهل صرت أستاذًا مهنته التدريس والبحث العلمي، أم مجرد ترس في آلة تدور بلا غاية؟ أراقب الطلاب وهم يعبرون الساحة، وجوههم شابة، أعينهم مليئة بالتساؤلات والأحلام. أتساءل: هل يرون في أساتذتهم قدوة، أم مجرد موظفين يوزعون الدرجات؟ أي رسالة نقدمها لهم إن كنا نحن أنفسنا عالقون بين الرغبة في الرحيل والالتزام بالبقاء؟

    أشعر أنني أغدو غريبًا في المكان الذي يُفترض أنه بيتي الثاني؛ غريبٌ لأن الجامعة، التي كان يُفترض أن تكون محرابًا للعلم، صارت مسرحًا للعبث، سوقًا للتنافس على أوراقٍ ومقررات؛ غريبٌ لأن صوتي الداخلي يُذكّرني كل يوم بأنني فقدت شيئًا مهمًا: ذلك البريق الذي يجعل الإنسان يذهب إلى عمله شغوفًا لا مثقلاً، غريبٌ لأن من يحجون إلى مكاتب الإدارة في الدور الأول ليسوا مثلي، ولن أكون مثلهم! وفي  نهاية اليوم، حين أغادر الجامعة، أحمل معي صمتي كما يحمل المسافر حقيبته؛ لا أحد يعرف ما في داخلي من صراع، ولا أحد يسمع تلك الصرخة المكتومة التي تتردد في صدري كلما عبرت البوابة. وربما لن يسمعها أحد أبدًا… إلا أنا.

    في فضاءات الحرم الجامعي، حيث يُنتظر من الفكر أن يسمو فوق نزعات السوق وضجيج المصالح، يتبدى الكتاب الجامعي وقد تخلى عن صفائه الأول، ليغدو شيئًا أبعد مما أُريد له؛ فما عاد مجرد جسرٍ إلى المعرفة، بل تحول – ويا للمفارقة – إلى سلعةٍ مشتهاة، وذريعةٍ يتكئ عليها الطامعون، وسلاحٍ يُشهر في معارك النفوذ وهيمنة المواقع. وهكذا غاب وجهه المعرفي المشرق تحت أقنعة المصلحة، حتى صار الكتاب شاهدًا على صراعٍ لا على علم، وميدانًا للمكاسب قبل أن يكون رحابًا للفكر.

    كان الأستاذ الجامعي يومًا ما صورةً للوقار، لا في الهيبة المعنوية فقط، بل في الحد الأدنى من الكفاية المادية التي تسمح له أن يعمل دون أن يلتف على مهنته. لكن مع مرور السنين، وبين موجات التضخم، وتهرؤ السياسات التعليمية، وتآكل مكانة الجامعة في وجدان الدولة، بدأ المرتب الجامعي ينكمش، حتى صار يُقارَن بأجر موظف حديث في قطاع خاص لا يحتاج فيه المرء إلا إلى إتقان العروض التسويقية! في البدء، صمت الأساتذة علّ الدولة تنتبه، ثم تحدثوا في المجالس المغلقة، ثم كتبوا المقالات، ... تعالت الصرخات، لكن لا أحد أنصت حقًا. وهنا، جاءت الانفراجة من حيث لم تُحتسب، لا سيما في الكليات النظرية: المقرر الجامعي؛ فجأة، صار كل مقرر فرصة مالية، وكل كتاب بابًا للدخل. وأصبح الطريق إلى زيادة الدخل لا يمر عبر وزارة التعليم العالي، بل عبر المكتبات المنتشرة حول أسوار الحرم الجامعي!

    هكذا دُشنت قاعدة الصنم الأكبر الذي يتعبد الجميع تحت أقدامه؛ فباسم الحاجة، وُضِعت القيم الأكاديمية على الرف؛ وباسم المرتب المهدور، صارت القاعات تُدار بمنطق السوق، وصار التدريس وظيفة لتعويض ما لم توفره الدولة، لا رسالةً في بناء الإنسان. ومن يومها، بدأ الصراع: صراع على المقررات ذات الدخل الأعلى؛ صراع على المقررات التي تضمن الكتاب الإجباري؛ صراع على تدريس أكثر من مقرر، في أكثر من فرقة، في أكثر من شُعبة. ثم جاءت الخلافات، فالتحزبات، فالمكايدات، فالصراعات، فالشكاوى التي تخرج من مجلس القسم العلمي إلى مجلس الكلية، ومن مجلس الكلية إلى إدارة الجامعة، إلى المجلس الأعلى للجامعات، أو إلى النيابة، ومن النيابة إلى ساحات القضاء! ... هيا نقترب أكثر.

الجمعة، 15 أغسطس 2025

الخروج من النفق (الحلقة الثانية): أصنام صامتة

أغسطس 15, 2025

الخروج من النفق (الحلقة الثانية): أصنام صامتة

    أعيد التأكيد أن ما أرويه في سردية الخروج من النفق إنما هو تجربة ذاتية خالصة، ذات خصوصية قصوى، غير أنها، بحكم تماثل بيئات العمل الأكاديمي، تحمل في طياتها طابعًا عامًا، بل وصارخ العمومية. وأكاد أجزم أن ثمة من خاض – أو يخوض الآن – التجربة ذاتها في صمتٍ مهيب؛ صمت قد تُمليه مرارة اليأس أو جراح الخجل. إننا جميعًا، على نحو أو آخر، في حالة سقوطٍ حر نحو المستقبل، لا ندري على وجه اليقين أين سنستقر؛ فالأحداث تتبدل بخطى مسرعة، والقلق رفيقك كلما اجتزت نفقًا طويل المدى. وما عليك – إن أردت أن تتعايش داخل النفق – إلا أن تُحول سقوطك القسري إلى فعلٍ طوعي، إذ قد يكمن جوهر التحول في زاوية النظر؛ تحولٌ مثير للدهشة والاهتمام، يكفي لتبديل طعم التجربة برمتها. إنها المشاركة البهيجة في الأحزان، التي تغير كل شيء؛ أهي مداهنة للواقع؟ أم انتفاعٌ به؟ أم قفزة متعمدة نحو درجة أعلى؟ سؤال يبقى معلقًا في فضاء المعنى.

    لا أتهم أحدًا بعينه، ولا أبرئ نفسي، إن النفس لأمَّارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وما من أحد معصومٍ من الخطأ. لكن ما الخطأ بدقة؟ أهو انحرافٌ عن جادة الصواب التي ارتآها ضميرٌ نوعي لا تدري أهو سليم أم مُشوَّه، أم هو مجرد اختلافٍ بين ما نريد وما يريده الآخرون؟ أهو نزوة عابرة تنفلت من عِقال العقل، أم هو قرار مفروض ننفذه ونحن ندرك عواقبه، ثم نلبسه ثوب التبرير كي ينام في وجداننا بلا وخز؟ هل الخطأ في معاملة الناس بحبٍ ليسوا أهلاً له، فيثقلهم كما يثقل الغريب جيوبهم بهدايا لا يعرفون قيمتها؟ أم هو في صدق النية، وافتراض صدقها لدى الآخرين، حتى إذا انكشف الزيف، كان الجُرح أعمق من أن يندمل؟ أم لعله يكمن في عدم تقدير الهوة السحيقة بين مثالية التصور وعبثية الواقع، حيث تصطدم الأحلام بصلابة الأشياء كما تصطدم أمواج البحر بصخوره؟

    الخطأ ربما ليس سوى مرآةٍ تكشف هشاشتنا أمام أنفسنا، فنحن حين نخطئ نرى وجوهنا بلا أقنعة، ونعرف أي كائنٍ نحن حقًا، بعيدًا عن الصورة التي نصطنعها أمام الآخرين. وربما هو درسٌ مُقنَّع، لا يفتضح سره إلا حين نتجاوزه وقد بدَّل شيئًا فينا، أو جرَّدنا من غرورٍ كنا نحمله خفية. والأهم أن ندرك أننا قد أخطأنا أو نخطئ، وأننا نُعاشر الخطأ ونتعايش معه في سيمترية غريبة، كأننا وهو وجهان لعملة واحدة؛ نمده بالحياة من قناعاتنا، ويمدنا بمبرراته، فنظل في رقصة بطيئة معه، نعرف خطواتها ونعرف نهايتها، ومع ذلك نواصل الدوران. لكن الأخطر أن نمضي في الخطأ ونسميه صوابًا، وأن نستسلم لإغواء المبررات حتى نصبح نحن والمسوغات شيئًا واحدًا ... حينها، لا يكون الخطأ حدثًا عابرًا، بل مسارًا نتبناه حتى يغدو قدرنا!

    دخلتُ النفق منذ سنوات، كمن يلج طريقًا بلا خارطة، تُغريه فكرة النور في آخره، لكنه لا يدري كم سيمكث فيه، ولا كم سيخسر من نفسه على جدرانه. كنتُ أظن أن الجامعة بيتٌ للعقل، وحصنٌ للحوار، ومحرابٌ للمعرفة؛ كنتُ أظن أن من فيها رفقاء في الفكر، لا خصومٌ في المصالح، وأن المجالس العلمية موائدُ للحكمة، لا ساحاتُ اقتتال. لكن ما رأيته كان شيئًا آخر، شيئًا يُشبه الظل حين يطول في المساء: لا أنت تعرف مصدره، ولا تملك دفعه. في كل زاوية من ذلك النفق، كنتُ أتعثر بحقيقةٍ مؤلمة، وأقف على مشهد يعكس السقوط لا السمو. رأيتُ الكتاب الجامعي يتحول من رسالةٍ إلى صفقة، والمقرر العلمي من اختيار معرفي إلى غنيمة تُدار حولها المؤامرات. رأيتُ من يُطالب بتدريس ما لا يعرف، ويكتب ما لا يقرأ، ويُملي على الطلاب ما حفظه هو ذات يوم، دون أن يسأل نفسه: هل تغير العالم؟

    رحلتي داخل النفق لم تكن رحلة في الزمن، بل في الوعي؛ كنتُ أراقب كيف تتغير الوجوه وتبقى الأفعال، كيف يمضي جيل ويأتي آخر، ويظل الصراع هو القاسم المشترك، ويظل الوطن هو الضحية. كم من مرة انشغلتُ بالتفكير في طرائق الإصلاح، أفتش عن المفاتيح بين الركام، وأرسم الخطط على رمال متحركة، فإذا بي لا أحصد سوى غبار الإحباط الذي يعلو كتفي، ويثقل أنفاسي. ومع ذلك، كنت أزيح الغبار بيدي، وأمضي من جديد، كأن الرجاء خيطٌ خفيٌ يشدني نحو المحاولة، مهما ضاقت الدروب وتكاثفت الظلال. وفي عتمة النفق، أدركتُ أن ما يحدث ليس مجرد أخطاء فردية، بل بنية كاملة من التواطؤ الصامت. أدركتُ أن أخطر ما يصيب الجامعة ليس الجهل، بل تشريع الجهل. أن نكتب لوائح تُجمد التخصصات، ونقر مقررات تُكرّس الفردية، ونحمي الكتب البائسة لأنها تُدر دخلاً لا لأنها تفتح عقلاً. 

    خطوات قليلة داخل النفق، وبعدها لم أعد كما كنت؛ لم أعد أبحث عن النور فحسب، بل صرتُ أكتب على جدرانه، وأفتش في زواياه عن ظلال الحروف التي سقطت من كتبٍ لم تُقرأ، وعن أصواتٍ قديمة حبستها الجدران منذ زمن. كل صدىً كنت أسمعه صار لغزًا، وكل رائحة غبار كانت تحمل تاريخًا لم يُروَ بعد. ومع كل خطوة، اكتشفت أن النفق لم يكن ممرًّا للخروج، بل مسارًا خفيًا، وحجر اختبار، ومسرحًا لمواجهة نفسي، حيث النور الذي أبحث عنه ليس في آخره، بل في قدرتي على رؤية ملامحه وسط الظلام.

    على جوانب النفق، تتراصُّ أصنامٌ مختلفة الأشكال والأطوال والأحجام، كأنها حراسٌ صامتون لعالمٍ لا يعترف بالضوء. لكلٍّ منها ملامح غامضة، بعضها يبتسم ابتسامة جامدة، وبعضها يقطب جبينًا من حجر، وبعضها بلا ملامح أصلاً، كأن النسيان نحته. تمر بجانبها فتشعر أن العيون الجامدة تلاحقك، لا لترى خُطاك، بل لتقيس مقدار خوفك أو انكسارك. هذه الأصنام ليست من حجرٍ فحسب، بل من أفكارٍ متصلبة، ومفاهيم عتيقة، ومصالح متحجرة، وذكريات مُثقلة بالغبار؛ بعضها يبدو مألوفًا كوجهٍ قديمٍ التقيته في زمن آخر، وبعضها غريبٌ حدَّ القسوة، يثير فيك رغبةً في الإسراع، وكأن المرور البطيء أمامه سيمنحه فرصةً لافتراسك. ومع ذلك، تظل الأصنام صامتة؛ فهي تعرف أن رهبتها لا تأتي من فعلها، بل من مكانك أنت في رحلة النفق! 

    هذا صنم كليات القمة والقاع، وأقسام الكثرة والفراغ: تمثال ضخم نُصِب في ساحة الوعي الجامعي العام، يوزع الأقدار على الطلاب وفق اسم الكلية أو القسم، لا وفق موهبتهم أو إبداعهم. يرفع طبقاتٍ إلى السماء ويطرح أخرى في مهاوي النسيان، حتى غدا الطالب يحلُم بالاسم قبل أن يعرف العلم! وذاك صنم الطالب الجامعي، الذي يحصر صورته في وعاءٍ فارغ أو زبونٍ يشتري سلعة اسمها «الشهادة»، متجاهلًا أنه عقلٌ حي وشريكٌ في إنتاج المعرفة ... هذا صنم الكتاب الجامعي: أيقونةٌ ورقية تحولت من منارةٍ للبحث إلى وثنٍ مغلق، تُقدَّس صفحاته كأنها آخر ما أبدع العقل البشري. لم يعد الأمر مجرد اعتماد مرجعٍ واحدٍ هزيل، بل صار مسرحًا لصراع خفي على التربح؛ حيث يُفرض الكتاب على الطالب لا لجدته أو عمقه، بل لأن وراءه سوقًا رائجة، وأرباحًا تتوزع بين من يملكه ومن يفرضه. وهكذا انقلبت المعرفة إلى سلعة، وصار الحبر أثمن من الفكرة، والبيع أهم من الإبداع! وذاك صنم الألقاب: تيجانٌ من حبر وورق، يُلاحَق بريقها أكثر مما تُطلَب رسالتها؛ يتحول اللقب أحيانًا من وسيلة لخدمة المعرفة إلى غاية قائمة بذاتها، وكأن العلم يختزل في حرف أو حرفين يُضافان قبل الاسم!

    هذا صنم الدراسات العليا: محرابٌ يفترض أن يكون موئلاً للبحث العميق، فإذا به يتحول إلى سوقٍ لألقاب العاطلين عن العمل والفكر، حيث الرسائل تتكرر بلا إضافة، والبحوث تُنتَج لتملأ الرفوف لا العقول! وذاك صنم المحاضرة التقليدية: طقسٌ يومي يتكرر حتى الملل، يقف فيه الأستاذ ليُلقي، والطالب ليكتب، فيما يغيب الحوار وتذبل التساؤلات. إنه صنم الزمن الأحادي، حيث يسير العلم في اتجاه واحد ... هذا صنم البيروقراطية الأكاديمية: هياكل ضخمة من اللوائح والنماذج والأختام، تُقيم الحواجز بدل أن تفتح الطرق، وتجعل من الإنجاز العلمي رهينة روتين يستهلك الأعمار ويقتل المبادرة! وذاك صنم الإنجازات: تمثالٌ عصري لامع، تجده نشطًا على منصات التواصل الافتراضي. تُعلَّق عليه صور الاستقبالات الرسمية، وصور الشهادات المصفوفة، ولقطات المؤتمرات والمناقشات المزدحمة بالابتسامات، بينما جوهر الإنجاز غائب، والمضمون العلمي هزيل أو منعدم. يتحول النشاط الأكاديمي هنا إلى عرضٍ مسرحي، غايته الإعجاب والمشاركة، لا الإضافة أو الابتكار. 

    هذا صنم الاعتماد والجودة: صرحٌ مهيبٌ من الشعارات واللافتات، يعلوه ختم ذهبي كتب عليه «اعتماد الجودة». يتزين بالمؤشرات والنسب والجداول والتوصيفات والتقارير، كأنها أختام ملكية على أبواب الجامعة؛ صنمٌ يكتفي بالشكل دون الجوهر؛ حيث تتحول الجودة إلى طقوس من الملفات المكدسة، والاستبيانات الإلكترونية والمطبوعة، والزيارات التفتيشية العابرة، فيما يبقى التعليم على حاله، والبحث العلمي في غفوته. إنه وهم القياس الذي يظن أن الأرقام وحدها تصنع المعجزة، وأن البريق الورقي الإجرائي يغني عن التغيير الحقيقي. وكما أن الأصنام القديمة كانت تخدع الأبصار بهيبتها، فإن صنم الجودة يخدع المؤسسات ببريق معاييره، حتى يغدو الغلاف أثمن من الكتاب! وذاك صنم المنصب الجامعي: عرشٌ خشبي مكسو بالمخمل، يلمع تحت أضواء الوجاهة الزائفة، ويغري الساعين إليه كما يغري الذهب العيون الجائعة، ويحج إليه المريدون التماسًا لوعودٍ مؤجلة. يتحول المنصب هنا من وسيلة لخدمة الجامعة إلى غاية يتقاتل عليها الطامحون، فتشتعل الكواليس بالولاءات والتحالفات، وتخبو شعلة الكفاءة؛ ينسى بعض الجالسين على هذا العرش أن السلطة الأكاديمية عهدٌ ومسؤولية، لا وسامًا يُعلق على الصدر. وكما أن الأصنام القديمة كانت تمنح المريد شعورًا بالقوة الزائفة، فإن صنم المنصب الجامعي يمنح صاحبه وهجًا مؤقتًا يخبو سريعًا، بينما يبقى أثره الحقيقي مرهونًا بما قدَّم من عمل صادق.

    هكذا، تصطف الأصنام على امتداد النفق، صامتة كأنها لا تبالي، لكنها في صمتها تبسط سلطانها على العقول والقلوب، وتقتات من ضعف البصيرة وانكسار الإرادة. في هذه العتمة، يمضي العلم الحق كمسافرٍ وحيد، يبحث عن محرابه النزيه، حيث لا تُسمع إلا أنفاس الفكرة وهي تتطهر من شوائب الوهم. وليس غريبًا أن نجد في سجل الفكر الإنساني من أفاق إلى هذا السر قبل قرون؛ فقد نهض «فرانسيس بيكون» في مطلع العصر الحديث ليشير إلى حواجز غير مرئية، سمَّاها «أصنام العقل»: صنم القبيلة، وصنم الكهف، وصنم السوق، وصنم المسرح. كانت دعوته أن يُزيح عن الفكر غبار العُرف، وضباب الألفاظ، وسطوة الموروث، وسحر البريق الزائف، حتى يعود العقل مرآة صافية تعكس الوجود كما هو. لنمض إذن في تأمل هذه الأصنام، واحدًا تلو الآخر، ودون ترتيب، نصغي إلى الحكايات التي نسجت بها خيوط نفوذها، ونحاول أن نفهم كيف تسللت إلى أرواحنا، ومتى منحناها مفاتيح عقولنا!

الخميس، 7 أغسطس 2025

دقات الساعة!!

أغسطس 07, 2025

 

دقات الساعة

20 نوفمبر 2010؛

    كانت الساعة وما زالت أداةً أساسية من أدوات الإنسان – عبر مراحل تطوره الحضاري – لتنظيم نشاطاته اليومية؛ فما منا من أحدٍ إلا وينظر في ساعته من حينٍ إلى آخر على مدار اليوم؛ وما منا من أحدٍ إلا ولديه ذكريات عن أحداث زمكانية مرَّت به أو مرَّ بها؛ وكذلك طموحاتٍ لأحداثٍ أخرى ينتظرها ويسعى جاهدًا إليها. لكن هل يدرك الناس مغزى ارتباط أحداث حياتهم بخط الزمان؟ هل يدركون مغزى نظراتهم في – أو إلى – ساعاتهم التي يزينون بها معاصمهم وحيطان منازلهم ومكاتبهم؟ 

    الحق أنني كلما نظرت في ساعتي انتابني شعور بالفزع والهلع، لا بسبب موعدٍ هامٍ قد فاتني، ولا بسبب لقاءٍ دنيوي أتٍ أترقبه وقد اقترب، وإنما لأنني أرى بعيني حركة الثواني الزمانية المنطلقة دومًا إلى الأمام بلا رجعة، تلك التي سرعان ما تتحول إلى دقائق فساعات، ثم إلى أيام فسنوات، ومن ثم تقتطع دومًا جزءًا من زماني الوجودي فوق سطح الأرض. وكم تمنيت أن تتوقف ساعتي عند لحظةٍ بعينها، أستشعر فيها بهجة الحياة بين كوكبة الأحباب، وكم تمنيت أن تتسارع حركة العقارب في ساعتي أو ترتد إلى الوراء لتطوي حدثًا يؤرقني، أو لتسترجع حدثًا يُسرني، لكن هيهات هيهات، فسهم الزمان يمضي متدفقًا إلى الأمام بنظامه المعهود، يحملني معه إلى أحداث دنيوية أجهلها، ثم إلى لقاءٍ أخروي أقف فيه أمام رب العالمين، ولا أملك إزاءه إلا الدعاء بأن أكون من الناجين!

    جميعنا كأفرادٍ على خط الزمان سواء، لكن منا المتقدم ومنا المتأخر، منا المُحسن ومنا المسيء، ينتظرنا جميعًا مصيرٌ واحد، ولقاءٌ واحد، نُسأل فيه عما قدمنا، فمنا الفائز ومنا الخاسر.

    جميعنا أيضًا كشعوب وأوطان وحضارات على خط الزمان سواء، لكن منا المتقدم ومنا المتأخر، منا من حرث وزرع، وهو الآن يحصد أو يستبشر بحصاده، ومنا من استلقى على ظهره مستسلمًا لخموله العقلي والمادي، منتظرًا أن يأكل من حصاد الآخرين، أو بالأحرى من فتات موائدهم، فإما أعطوه وإما منعوه. فأين ومتى وكيف أنت يا وطني في تلك اللحظة الهاربة من حاضرك؟ زرعت في صدر الإسلام وحصدت، بل وأكل من حصادك الآخرون، لكنك رُحت بعد ذلك – وإلى الآن – في سُباتٍ عميق، تنتظر حصادهم في خشوع ذليل ... افترشت أرضًا تبكي حضارتها وريادتها وقدسيتها، واكتفيت بحضارة الأسلاف كغطاءٍ بات لا يُجدي نفعًا ... يخطو من فوقك الأخرون من كل حدبٍ وصوب ... يدهسونك بأحذية حضارتهم الثقيلة ... يتأهبون لإعلان وفاتك، إن لم يكونوا قد أعلنوها حقًا فيما بينهم!

     ألا توقظك تقلصات وأوجاع الأحشاء بداخلك؟ ألا توقظك الكدمات الدامية التي نقشوها فوق جسدك العليل؟ ألا توقظك صرخات قلب ينبض عل استحياءٍ بصدرك؟ ألا توقظك دقات ساعة مكة وقد باتت أكبر ساعة في العالم، وهي تعلو بآذانها في أشرف بقاعك؟ ألم يأن لك يا وطني أن تصحو من غيبوبتك الطويلة، تنفض غبار الجهالة والتخلف لتعلو هامتك؟ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ).

الأحد، 27 يوليو 2025

الخروج من النفق (الحلقة الأولى)

يوليو 27, 2025



هذا النص ليس دراسة أكاديمية، ولا هو سيرة ذاتية بالمعنى التقليدي، بل هو محاولة للكتابة من موقعٍ نادرًا ما يُكتب منه: من داخل نموذج قريب العهد للإدارة الأكاديمية، لكن بعينٍ لم تَعْمَ عن رؤية هشاشة الواقع وعبثيته؛ من موقعٍ تستطيع منه أن تُراقب من الداخل، وعن قُرب، قصاصات الورق حين يتحرك بها ومعها كل شيء بانتظامٍ مُعلَن، ثم تتراكم وتتراكم شاهدةً على لغةٍ فقدت مصداقيتها، وعلى مهامٍ تعليمية استحالت حسابًا دقيقًا للمكاسب والخسائر المادية. ليست هذه شكوى، ولا مرثية، بل شهادة، أردت أن أضعها أمام من يرغب، لا ليحذر، بل ليفكر؛ فلئن كان للفلسفة أن تظل حية، فلا بد أن تُمارَس، ليس فقط كمنهج تنظيري نقدي، بل كأسلوب في الحياة والعمل.

النفق الذي أعنيه هنا هو العمل الإداري الذي اضطلعت به لمدة سبعة عشر عامًا أو يزيد كرئيسٍ لقسم الفلسفة، نفقٌ طويلٌ بلا شك، سواء بمقياس العُمر المحدود، أو بمقياس الوظيفة الأكاديمية التي تفترض التركيز على الرسالة الجامعية السامية: التدريس والبحث العلمي، وليس الانغماس في عملٍ يستنفد الوقت والجُهد، ربما بلا طائل، بل ويستطيع حاسوب أو نموذج لُغوي مُزود بالقوانين واللوائح الجامعية، وموظف يُجيد تشغيله، أن يقوم بأكثره على الوجه الأكمل، شأنه في ذلك شأن أغلب المناصب الأكاديمية (اللهم إلا ما قد يتعلق بالجوانب العلمية الخالصة)، مُتجاوزًا المشكلات والتوترات والمشاجرات والنوازع البشرية التي ألقت بنا كثيرًا في غيابات التخلف والفشل!

ما أصعب وأقسى أن تتولى منصبًا إداريًا أكاديميًا في وطنٍ لا يضع قضية التعليم على رأس أولوياته المُلحة، وفي مكانٍ تتعاظم فيه صراعات النفوذ والهيمنة والمال والشُهرة من أجل اللاشيء، وفي زمنٍ يتسرب فيه الأشباه (أشباه الأساتذة، وأشباه الكُتاب والمثقفين، وأشباه النخبة وحملة الألقاب) من شقوق الفساد دون وازعٍ من ضمير أو قانون أو مبدأ! وما أصعب وأقسى أن يُفرض عليك الاستمرار داخل النفق، مرة تلو المرة، مكابدًا ظُلمته ووعورة طرقه وتعرجات جوانبه ووحشته دون أن تلمح نهايته!

دخلت النفق مُفعمًا بالأمل والنشاط والرغبة في التغيير، وخرجت منه مُنهكًا بأمراض العصر، وربما مُنكسرًا بخيبات وطنٍ يعشق التمظهر الكاذب، ويُجيد إخفاء الجوهر المشوَّه! كان في القلب بقية من حماسة، وفي الفكر ما يشبه التصميم، لكنني لم أكن أعلم أنني أدخل ممرًا طويلاً، معتمًا، بلا خرائط، وأن النور الذي بدا في أوله سرعان ما يخفت، لا لأنه ينطفئ من ذاته، بل لأن أيدي كثيرة تحرص على إطفائه!

لا أتحدث عن إنجازات أو إخفاقات، فهذه جميعًا تأتي في وطني مُغلفةً بخيبات؛ والخيبات دومًا متشابهة المذاق، سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجمعي، لكنها متفاوتة اللون والشدة والمدى. ورغم بصيص النور الذي قد يُغازل عينيك من حين إلى آخر داخل النفق، ورغم ثباتك بأثقال المسؤولية، وخروجك مُحكمًا قبضتك على الراية دون سقوطها، وإن كثرت الطعنات في جسدك وعقلك وروحك، إلا أنك تُدرك في النهاية أن المنصب الإداري وإن سعى إليه كثرةٌ ممن يستمدون منه القيمة، قد يكون لمن زهد فيه بمثابة عقوبة واجبة النفاذ، ووقتئذٍ تُصبح الكتابة عن الحاضر والمستقبل فعلًا مرتبكًا؛ تُمسك القلم لا بثقة من رأى الطريق، بل برجفة من استشعر ضبابًا لا ينقشع!

نعم، لقد كرهت المنصب وإن كان محدودًا، وزهدت فيما سواه أو علاه؛ لم يخدعني البريق الزائف، ولم تستملني الكراسي الملوثة بالتملق والنفاق، ولم أجد في لقاءات كثرة من المجالس والاجتماعات والحوارات سوى مسرحيات فاشلة لإعادة إنتاج العجز وتدوير الخطاب الزائف، مجالس واجتماعات وحوارات قوامها الحقيقي تصفية الحسابات وتغليب المصالح والمظهرية الكاذبة! آثرت أن يكون عطائي فقط لقلمي البحثي من جهة، وللجامعة التي احتوتني من جهة أخرى، حتى ولو عملت بمفردي في كثيرٍ من الأحيان، وحتى لو لم أجد في أغلب الأحيان ظهيرًا إداريًا فوقيًا كنت أراه ضروريًا! ليس ذلك فحسب، بل آليت على نفسي منذ أن توليت المنصب ألا أكتب شيئًا (كما فعل بعضهم) عن مشكلات عملي لمن هم خارجه، خصوصًا على وسائل التواصل الاجتماعي، نظرًا لعدم معرفة رُوادها في الغالب بطبيعة العمل الجامعي ودرجاته ومتطلباته وقوانينه؛ ونظرًا لأن هذه الوسائط في الغالب ساحاتٌ مفتوحة لتسويق الوهم، والتهليل الكاذب، والملائكية الزائفة، فالجميع أنبياء إن صح التعبير!

داخل النفق، وجدت من زملاءٍ لي حبًا كان دافعًا للاستمرار في أوقات ألَّحت فيها علَّي نفسي وأسرتي بضرورة الانسحاب؛ الحب وقودٌ فائق القوة للعطاء والعمل، حتى وإن كان مجرد ابتسامة صادقة عابرة، أو كلمة حق نادرة، أو أداء واجب نتناساه حين نطالب بما لنا وما ليس لنا! ومع ذلك، لم أسلم – من حينٍ إلى آخر – من صراعاتٍ وخلافاتٍ لم أكن يومًا طرفًا فيها بشخصي، إنما قُذفت في أتونها بصفتي؛ ومن شكاوى غُمستُ فيها قسرًا، وكابدت التيه بين سطورها وحُججها، وتعثرت في طرائق الرد عليها أيامًا وليالي طويلة؛ ومن لا مبالاة مورست باحتراف، سرًا وجهرًا، دون أدنى شعورٍ بالذنب؛ ومن إساءاتٍ ألقيت في وجهي وجُلد بها ظهري عمدًا وعرضًا؛ ومن تشهيرٍ تجاوز دفء التناجي بين اثنين أو أكثر إلى صقيع الجهر والعلن، ومن محاولاتٍ لإيذائي دون وجه حقٍ من أقرب من صادقت وأكثر من ساندت! الغريب أن كل هذا، وأكثر منه مما عايشته داخل النفق من ضجيجٍ وصخبٍ لا مبرر له، واصطراخٍ لا محل له من الإعراب، ووقتٍ مُهدر، وطاقةٍ مستنزفة، لم يُزد أو يُنقص لأحدنا رزقًا مكتوبًا، ولم يمنح له وزنًا بين الناس محسوبًا، ولم يُثمر لمسيرة التعليم والبحث العلمي – ولو جزئيًا – خطًا جماعيًا مرسومًا!

في النفق منعطفات ومنحدرات ونواصي، التقيت فيها أناسًا يُفكر كلٌ منهم في ليلاه، ويُقاتل في سبيل رؤية دوجماطيقية تغشاه (إلا من رحم ربي)، ويبحث عن تبةٍ يقف عليها ليعلو فوق الآخرين بمنطق تبرير الوسيلة بالغاية، ولو كانت الغاية غواية، والوسيلة نكاية، كما التقيت أناسًا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمضوا في طريقهم لا يلتفتون، ثابتين على مبدأ، صادقين في القول والفعل، كأنهم خُلقوا من معدن الوفاء، لا تزلهم الدنيا، ولا تفتنهم الزخارف، ولا تشتريهم المناصب.

يُخطئ من يظن أن وجودك في هذا النفق الإداري محض مهمة أو مرحلة عابرة؛ فبمرور الوقت، تُصبح وظيفتك أكثر من مجرد عملٍ تؤديه؛ تتمدد فيك، تسكُن يومك، وتُلون وعيك، وتؤثث وجدانك؛ تقتحم خصوصيتك، وتقتطع من وقتك أكثر مما يفعله أقرب الأصدقاء، وتسرقك من عائلتك حتى في أشد أوقاتهم احتياجًا إليك، بل أحيانًا تنتزعك من نفسك؛ تنفذ إليك من أبواب مفتوحة وأخرى لم تدر أنها موجودة: من شاشة هاتفك في منتصف الليل، من نظرة عابرة في ممر العمل، من نبرةٍ متعجلة، أو من مطلبٍ لا يقبل التأجيل، ولو لم يؤمن به قلبك!

تُقيم فيك وظيفتك حتى أثناء نومك، وتطرق وعيك حتى وأنت تتناول طعامك، أو تقود سيارتك، أو تهم بقسط من الراحة في إجازةٍ لا تُشبه الإجازات، لأنها لا تعرف جدارًا للعزلة، ولا تعترف بما يُسمى خصوصية. تلاحقك الرسائل والمكالمات كأن الزمن كله مُستباح باسم العمل؛ لا تكابد فقط القلق مما يحدث، بل مما قد يحدث، من مهامٍ لم تُنجز بعد، من مطالب مفروضة لا تقتنع بها، ولكنك مطالب بإنفاذها، كأنك تكتب بيدٍ لا تخصك! هكذا تتوالى الأيام، وتغدو مُلزمًا بأن تتقن، لا مهارات العمل، بل أخلاقيات النجاة؛ عليك أن تُتقن فنونًا جديدة للبقاء: فن احتمال التفاهة، والتغاضي عن الخذلان، وتحمل خيبة الأمل حين تأتي دون موعد، والنجاة من مؤامرات صغيرة تُحاك على طاولات أكبر مما تليق بتفاهتها، وأن تبقى قادرًا على الوقوف في وجه الإقصاء، والتآمر، والخذلان، والتقاعس وفقدان الثقة!

عليك أن تُعيد برمجة تفكيرك ووعيك ومشاعرك وأولوياتك، وأن تبتكر تعويذات مختلفة وجديدة للحياة، ليست تعويذات منطوقة، بل تعويذات تُمارسها وتتعايش بها؛ طقوس صغيرة باتت ضرورية: نظرة إلى السماء في نهاية يومٍ شاق، لحظة صدق مع ذاتك، قلمٌ تكتب به لنفسك لا لغيرك؛ أن تُذكر قلبك دومًا بأن كل هذا سيمر، كل هذا سيمر، فليس ثمة شيء باقٍ إلا ما تصنعه أنت في داخلك؛ لا خلود لمشهدٍ زائف، ولا دوام لسلطةٍ عابرة، ولا جدوى من الركض خلف كراسي لم تعرف إلا التملق والتمثيل! وحين تخرج من النفق، لا تخرج فارغًا، وإن خرجت مُتعبًا؛ تخرج وفيك قصة لم تكتبها بعد، لكنها تضغط عليك كي تُروى، بعد أن أُجبرت طويلاً على الاستماع لقصصٍ لم تكن يومًا قصتك، ولم تكن أنت فيها سوى شاهد صامت، أو ضحية تُحسن إخفاء ألمها؛ تخرج لتقولها، أخيرًا، كما هي: صافية، موجعة، خالية من الشعارات ... لكنها لك!

لا يزال طريق الخروج من النفق وعرًا، مثقلًا بالغبار، متعثر الخطى، كأن الأرض نفسها تُقاوم انعتاقك منها. وما زالت بوابة الخروج، على قُربها، تُلوّح لك من وراء ظهرك، لا لتُغريك بما مضى، بل لتذكّرك أن المسافة بين الداخل والخارج ليست دائمًا مادية. ومع ذلك، لا بأس. إذ قد آن لك، وقد تحررت ولو جزئيًا، أن تروي بعضًا من فصول الحكاية التي احتوتك في قلب ذلك النفق؛ حكايةٌ ربما بدت خاصة، بل غارقة في خصوصيتها، لكنها – بحُكم طبيعة النفق وتشابه ملامحه – عامة في عمقها، صارخة في دلالتها؛ يتذوق مرارتها، ويُدرك أبعادها من سار في دربٍ مشابه، خاصة أولئك الذين خاضوا غمار العمل الأكاديمي حين يلتقي فيه الحلم الأكاديمي بجدار الواقع الإداري!

أما وقد خرجت بعقلك مثقلاً لا بمنجزاتٍ أو خيباتٍ تُحصى، بل بتساؤلاتٍ لا تزال مفتوحة، فليس عليك إلا أن تمضي قدمًا، وفي يدك حكاية، وفي قلبك درس، وفي ظهرك ظلٌّ طويلٌ للنفق لن تنساه!